الثلاثاء، 10 أبريل 2012

القصة الفائزة بالمركز الثاني في مسابقة المنتدي الأدبي 2011

قصة قصيرة (مقوعــــــاة الليل)
بين الحين والأخر عودتنا أمي أنا وإخوتي أن نتكور حولها كوريقات وردة بعثرتها الرياح. في سجال بين القهقهة وغصة اللعاب. جاحظة أعيننا كضفدع شارد. يبدوا أن اليوم موعد الحكاية المنتظرة...

تركنا ما بيدنا من قلم وكتاب وتوجهنا جرياً نرج الأرض تلبيةً لنداء صوت أمنا. "عسى أن تحكي لنا حكاية سعيدة" كنت أحدث نفسي لئلا يسمعني أخوتي وأكون سخرية الليلة.

”أقبلوا أحكي لكم حكاية الأصوات التي تتجول في الظلام، قصص الظلام والموت" قالت أمي.

فأدركت أنني سأنام الليل يحتضنني الخوف...

***

في إحدى ليالي الصيف شديدة السواد، استيقظت على صراخ طفلي الصغير، يطلب عشائه الثالث أو ربما الرابع، الذي هو أحدكم الآن فأخذته لأرضعه، جلست، كان كل شيءٍ ساكنا كسكون الجبل، الكل يفترش الأرض، مستسلماً لهجوم النوم الساحق، نيام على مداخل الغريفات المتناثرة التي يجمعهن الفضاء، وفجأة وبينما أنا أرضع الصغير، كان النعاس يملأ عينيّ، التقطت أذنيّ صوت من بعيد، صوت جلجلة سلاسل، وبدأ الخوف يغزو جسدي، وهرب النعاس من الخوف، لكنني طمأنت خوفي بأن ذلك الصوت هو صوت السلسلة التي ربطت بها بقرة جارنا.

فبدأ جسدي بالهدوء من جديد، لولا أن ذلك الصوت كان يعلو قليلاً قليلاً، حتى تيقنت بأن شيئاً غريباً يأتي من تلك الظلمة الحالكة، فأحسست بحرارة تغزوا أطرافي، وتسارع خفقان قلبي.

احترت ماذا أفعل...! فاستلقيت على جسد الصغير، أتلصص بعين واحدة ذلك الجسد الغامض القادم، المكان تغزوه صوت أقدامه، والسلسلة التي بدأ صوتها يفترس المكان. أحسست به على بعد أمتار من الأجساد المبعثرة, بدأت تتزاحم أنفاسي للخروج، الصوت يقترب ويقترب حتى توقف، وجسد ضخم تشكل في الظلمة، تتقدمه عينان ناريتان، تتحركان بثقل تتفحصان المكان، في هذه اللحظة عرفت أنه (ضبعون)، فتذكرت ما حكته جدتي لي بأن هذا المخلوق يبحث عن جسدٍ يتحرك فيحمله معه إلى حيث لا ندري. الجثث النائمة الملقاة في نظره أموات، وهو لا يحبذ الأموات كما حكت لي جدتي ذات مره، وهو أيضاً يبحث عن عينين مفتوحتين فترشده إلى جسدٍ ينبض، فأغمضت عينيّ بقوة، وقطعت أنفاسي، وازددت تقلصاً.

بعد برهة بسيطة بدأت الأصوات تعلو من جديد، نحو طريق مظلم مؤدي إلى الجبال المزدحمة، حمل جسده الثقيل المظلم، واختفى تحت غطاء الليل، والسلسلة خلفه تمحو آثار أقدامه. وتقرفصت أنا وصغيري تحت الغطاء، حتى انفلق الفجر يملأني العرق.

***

تجرعت أنا غصتي المعتادة عند سماع مثل هذه القصص بينما أخوتي يملئهم الحماس، وبادر أخي سالم يسأل أمي ما هي قصة (مقوعاة) الليل؟؟

قالت أمي: مقوعاة الليل هي حيوان مخيف يشبه الذئب، يتجول بين الحارات القديمة وقرب الأحياء السكنية المترامية الأطراف، التي تقبع على حواف الجبال، يتجول في الليل فقط عندما يحس بأن الموت يحوم في تلك البلدة، فيخبر أهلها بأن أحداً ما من هذه البلدة سوف يكون ضحية الموت في اليوم التالي، ثم عقبت أمي: في إحدى الليالي كنت نائمة فاستيقظت على ذلك الصوت المشئوم المخيف الذي عندما أسمعه أبدأ في التخمين دور من سيحين غداً...؟! وكانت جارتنا زوينة بنت الساحر في تلك الأيام طريحة الفراش في المستشفى، تعاني من فشلٍ كلوي، فكان لها النسبة الأكبر في نصيب الموت غداً. فاستمرت (المقوعاة) ذهاباً وإياباً ترج الفضاء بصوتها المشئوم، حتى طلع الفجر، وغادرت الحارة القديمة، وفي الصباح جاءنا خبر موت زوينة بنت الساحر، فأدركت حينها أن صوت (المقوعاة) كان لموتها.

***

دقت الساعة العاشرة وقالت أمي: "حان موعد النوم وإياكم إن سمعتم (المقوعاة) وصرختم لها بكلام فاحش، فإنها تفهم ما تقولون، وسوف تتبعكم حتى تمسك بكم ولو دخلتم في بطن آمكم، كما حدث ل نصور الهبيلة الذي صرخ لها بكلام فاحش، وركض، ومنذ ذلك الوقت لم يجده أحد، واختلفت الروايات لمن بقايا جسد طفلٍ وجدت بعد سنتين تقريباً في بئر مهجورة ".

***

ذهبت إلى فراشي القابع تحت النافذة، والخوف يملأ زوايا جسدي، أما إخوتي ما أن استقروا حتى كسروا الصمت المطبق بشخيرهم.

(ضبعون)و (مقوعاة) الليل. لم يغادرا مخيلتي، صوت أمي لا يزال تتردد أصدائه في عقلي. وهو ينسج الخوف في هذا الصمت، جاهدت بالابتعاد عنهما لم أستطع. يمر الوقت بلا نعاس، كلما أغمضت عينيّ علا صراخ قلبي بدقاته، وتزاحم دفء أنفاسي تحت هذا الغطاء. تمر الدقيقة بطيئةً كيوم، وما زادني خوف وإعياء صوت أتى من بعيد، صوت من الذاكرة أم من خلف النافذة...؟!

وههه

وههه

وههههه

يعلو ويعلو... "إنها هي. نعم نعم إنها هي" وأدركت بعدها كم كنت غبي...! وجدت هذا الصوت في ذاكرة الأمس. ليس إلا قط متجول يبعثر صمت الليل.

فارتعشت أطرافي من الخوف، وببطءٍ شديد تكورت كجنينٍ في بيضة وأحكمت غلق عينيّ. ووضعت إصبعي على مداخل أذنيّ، لكن الضجيج لم ينتهي. أردت الحراك من تحت النافذة والصراخ لأخوتي ، لكن تذكرت قول أمي أن لا أصدر صوت لئلا تسمعني فتأخذني إلى مكانها المجهول.

واستمر صوتها الذي لا ينضب يعلوا ويخفت، كاسراً الصمت، والخوف يتلذذ بجسدي الصغير. أردت حتى التخلي عن صوت أنفاسي لولا حاجة جسدي للهواء. سكبت عيني دمعاً كما سكب جسدي سائلاً بعد احتقان.

استمر صوتها يملأ الزوايا المعتمة، حتى خالطه صوت أمي لصلاة الفجر وأخذت ضجيجها معها.

***

"ربما عامر! لا... ربما وائل! فإصابته خطيرة بعد الحادث الذي وقع له لاااا لا... ذاك الرجل العجوز الذي يفترش التراب دائماً، أووو.... ربما أنا! من يدري...؟! لكنني سأكون أكثر حرصاً من أن أقع في حفرة أو يقع عليّ شيء. كل ما أعرف أن اليوم جسداً سيرقد تحت التراب في بلدتنا وللأبد. اليوم أنا للمرة الأولى أرى طائر الموت يحوم ليلتقط روحاً. حيث أذهب أرى وجوه الناس عابس وضاحك. يبدوا أنهم لم يستمعوا إلى صوتها البارحة!! لكن ذلك لا يهم، كم هو جميل أن تعرف شيئاً لا يعرفه الآخرون. كم هو جميلٌ معرفة الغيب.

***

مر الصباح سريعاً بلا موت، الكل منهمك في عمله وأنا أترقب الخبر، أتنقل من مكان إلى مكان، ربما أجده مرمياً بين الجدران، أو مسحوقاً على طريق سريع، لكن لا... أثر له!! "ربما للساعات القادمة رأي آخر، فالمساء طويييل".

تمر الثواني مليئة بالانتظار، وصوت الليلة الفائتة لا يزال يتردد في ذهني وكأنة يهمس لي بأن أتريث قليلاً.

مر أيضا مساء اليوم كمساء الأمس، بلا موتٍ يبعثر الوقت، حتى أتى الليل بظلمته وبهدوئه المعتاد، وغزت أسراب النوم كهوف خلايا جسدي الضئيل، بعد أن أتعبه الصوت، والليل، والنهار الطويل...

أدركت حينها أن المطر في غربة، وذلك الصوت يبحث عن فتات بين خطوات البشر …

واستلقيت تحت النافذة المفتوحة...ونمت بسلام...
 تمت...
 مفردات:-

الضبعون : شخصية أسطورية تشبه الثور الكبير أفرزت حكايات على لسان الأباء والاجداد...

مقوعاة الليل: ثعلب الصحراء






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق